يحكى في قديم الزمان عن أسرة بائسة قست عليها الدنيا وما يصطاده الأب من السمك لا يكاد يكفي لإطعام الأفواه الجائعة وهو يخرج كل يوم قبل شروق الشمس للبحر ويعود عند منتصف النهار منهكا مكدودا ومعه كيلة من الدقيق وخضرا وزيتا أو سمنا فتعجن المرأة أقراص الشعير وتأخذ الأسماك الصغيرة التي لا تصلح للبيع وتطبخها مرقا ثم تجتمع العائلة حول المائدة فتأكل حتى تشبع ثم يرجع الصبيان إلى الكتابو الأصغر سنا يخرجون للعب في الحارة أما الصياد فينهمك في خياطة شباكه أو تصليح قاربه الذي أكل عليه الدهر وشرب وامتلأ بالشقوق وبعد أن تنظف المرأة دارها تذهب لجاراتها تشرب الشاي و تسمع قصة من هنا وحديثا من هناك وكانت تخفي ما تقدمه لها جاراتها من طعام أو غلال وحين تعود إلى البيت تفرقه على أطفالها ولما يكون الصيد جيدا فإنها تستبدل فائض السمك بطبق من فول أو عدس وتطبخه عشائها وتحاول دائما أن تدخر شيئا للوقت الذي يشح فيه الرزق .
اوكانت الأيام تمر رتيبة مملة لا خلاص فيها من الفقر ولا حيلة أمام الصياد ورغم ذلك كانت العائلة سعيدة ولم تتذمر المرأة أبدا من زوجها ولا من فقره وكانت تحمد الله لما ترى وتسمعه من مشاكل جاراتها مع أزواجهن رغم أن حالتهم المادية أحسن منها وذات ليلة رأت المرأة إحدى جاراتها تحمل عقدا من الذهب يحلي رقبتها تفاخرت عليها باهتمام زوجها بها وما كان يحز في قلب زوجة الصياد أن جارتها أقل منها جمالا فكانت تتألم في صمت ولامت أبويها لتزويجها لرجل فقير بحجة أنه من أقاربهم لكنها تعود وتستغفر الله فكل شيئ قسمة ونصيب والرزق على الله وفي أحد الأيام لم تطق صبرا واشتهت أن يدللها زوجها كبقية النساء .
ولما رجع الصياد من عمله في منتصف النهار تلقته باللوم والعتاب وأثقلت عليه وهي تندب حظها وتبكي جمالها الضائع وجسدها الأبيض الذي لا يزينه عقد ولا خواتم أوخلخال كان الزوج يعلم أنه قصر في حقها لكن ما باليد حيلة فقال
في الصّباح الباكر خرج الزّوج إلى البحر ،ورمى شبكته، ولمّا إمتلأت بالسّمك ،نزل إلى سوق القرية ،وباع ما صاده ،وكان هذه المرّة كثيرا ،لكنّه لم يفرح، ونظر للنّقود في يده دون مبالاة ،فامرأته قد إنفتحت عيونها ،وأضعاف هذا المال لن يكفيها ،ثمّ مشى في الطريق وهو مشغول البال ، يلعن جاراته ،ونسي حتى أن يشتري شيئا يأكلونه ،فما الذي سيقوله لإمرأته الآن ؟ فقد كره الكذب عليها ،وحتى لو أراد أن يستلف مالا ليشتري لها ما تشتهيه ،فلا أحد يقبل ،مع ضعف حاله،وبعد قليل أحسّ بالتّعب،فجاء قرب دار كبيرة ،وجلس يمسح عرقه ،وفجأة خرج منها رجل وإمرأة يجريان، وقالا له :هل جئت لشراء الدّار ؟ ننصحك أن لا تفعل !!! ثم راحا في سبيلهما ،وهما يلتفتان خلفهما ،نظر الصّياد إليهما متعجّبا ،ثمّ قال في نفسه :والله لقد جاءتك الفرصة حتى يديك يا أبا خليل،ثمّ سأل عن المالك ،فأروه رجلا غنيّا واقفا قرب قافلة من الجمال ،ولما أخبره برغبته في رؤية الدّار، قال له :بإمكانك أن تمضي فيها ليلة أو أكثر، فإن أعجبتك بعتك إياها بثمن زهيد بكلّ ما تحتويه من أفرشة ،ومتاع ،عرف الصّياد أن هناك شيئا ما في الدّار جعل صاحبها يحاول بيعها، ولا يجد شاريا ،لكن وما يعنيه من ذلك، المهمّ تأتي زوجته ،وتفرح بالدار ،ويكون قد أوفى بوعده ،فلا تعود لإحراجه بطلباتها .
أخذ الصياد المفاتيح، وطار بها إلى أمّ خليل ،واستغربت الزّوجة من عودة زوجها دون قفّة ولا أكل ،ولكنها ما إن رأت المفاتيح في يده، حتى فتحت عينيها من الدّهشة، فأخذت تزغرد ،وتنادي الجارات، كي تعلمهنّ بالخبر، ويساعدنها في حزم متاعها لنقله للدّار الجديدة .وأسرعت إلى ما عندها من أفرشة عتيقة تطويها، وما لديها من كراسي محطّمة تحزمها، وما في مطبخها من أواني مكسّرة تجمعها، ، ولكن زوجها أخبرها أنّ الدّار مفروشة بفاخر الأثاث، وطلب منها ألا تحمل شيئاً معها البتّة، فليس عليها سوى الذهاب إلى الدار، والسّكن فيها ،فلم تقدر أن تصدّق ماسمعت، فأيقظت الأولاد، وألبستهم ثيابهم ،وقالت: اليوم ستأكلون على طاولة كبيرة، وتلعبون في دار واسعة ،إنتهى الخروج إلى الأزقّة القڈرة ،وسأعلّمكم النّظافة، والأدب !!! ثم قادتهم أمامها، كصفّ من العساكر،واتّبعت زوجها، وهي تحمل على رأسها صرّة ثيابها، التي أبت إلا أخذها معها .
كانت الجارات قد سمعن زغاريدها، وأصواتها، ، فوقفن في نوافذهن، ينظرن إليها، وهي تخرج مع صبيانها وقطّتها إلى الدّار الجديدة، فأخذت تمشي أمامهنّ مزهوّة بنفسها، وهي تشير إليهن بيدها، وتدعوهنّ إلى زيارتها في دارها ، وهنّ يتغامزن عليها، غير مصدّقات ما يسمعن من كلامها ،وقالت إحداهن للأخرى : لعلّ زوجها سيسكنها في إسطبل ،فهذا أكثر ما يقدر عليه ،فبالله من أين سيأتيها بالدّار الجديدة؟ وهو لا يقدر حتى على شراء حذاء لها ،ولولا جاراتها لمشت حافية القدمين ،ضحكت الأخرى، وردّت :هذا مصير من لا تفكّر بنفسها ،وتقبل بالزّواج من فقير ،كان عليها أ تتركه ،وترجع إلى دار أبيها ،ولو كنت أنا لفعلت ذلك دون تردّد ،ولمّا بلغ الزّوج بأسرته الدار الجديدة، فتح الباب، ثم تركهم ،ومضى في حال سبيله من غير أن يدخل معهم ،وكانت أمّ خليل سعيدة إلى درجة أنّها لم تسأله عن سبب ذهابه بسرعة، وعدم مشاركتها الفرحة ،ولا حتى عرفت من أين أتى بالمال .
ودهشت الزوجة حينما رأت دارا كالقصر ، لها باحة واسعة، ووسطها بركة من المرمر، تترقرق فيها المياه،وفيها الأسماك، وتحوم على حوافها الطيور، وكان هناك شجيرات الورود والياسمين، التي تنشر شذاها الفوّاح وحول الباحة تمتد الغرف، وهي كثيرة، بشرفاتها المطلة على الحديقة، وقد بدت من وراء النوافذ الستائر الرقيقة من الحرير، يداعبها النسيم، وفي صدر الدار غرفة للجلوس فيها أرائك، من خشب الساج مطعّمة بالعاج ، حفرت عليها أحلى النقوش ،أما الأرض فهي مفروشة بسجاد تغطي كامل الغرفة، وكان المدخل على هيئة قوس بديع الصّنعة فيه بابان مثل مجالس السّلاطين…